رد: فيض الرحمن في الفوائد الحسان
كُتب : [ 16-03-2015
- 22:05
]
تأملات في كتاب الله العظيم
قال الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ([1]) فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا ([2]) فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ([3]) وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾([4]).
وصف الله تعالى من يحسب الفقراء أغنياء؛ لما يبدو منهم من تعفف وحياء بالجهل، وذلك في قوله سبحانه: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾.
وليس الجهل عن عدم تحصيل لدراسة ما أو شهادة معينة، في مدرسة أو معهد أو جامعة، ولكنه نابع من التقاعس عن معرفة أحوال اليتامى والأرامل والمحتاجين، وعدم زيارة الإخوة في الله، وتفقد أحوال المسلمين، والانشغال عنهم بالدنيا وأشغالها.
إن زيارة المسلمين وأهل المساجد في بيوتهم تكشف لك ضيق العيش الذي يعانيه من يعانيه منهم؛ من ذلك: طبيعة الفراش والأثاث والآنية ومظهر البيت أو ضيقه، ولباس الأبناء... ونحو ذلك.
وهذه الأمور لا تعرف إلا من الزيارات والمتابعات، وفعلها ينفي الجهل عن المسلم.
تأملات في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ([5])
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه؛ قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه، فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: «إن الله - عز وجل- قال: إنا أنزلنا المال؛ لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ؛ لأحب أن يكون إليه ثان، ولو كان له واديان؛ لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب»([6]).
قد يعجب الكثير الكثير حين يقرأ هذا الحديث، وقد يشق عليه فهمه.
ولكن مما ييسر فهمنا للحديث الشريف: أن نعلم أن المقصود من خلق الجن والإنس هو عبادة الله سبحانه وتعالى، لا شيء غيره، إذ يقول سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([7]).
وإنما كانت الأشياء وسيلة، يستخدمها الجن والإنس للطاعة؛ كالطعام، والشراب، والدابة، والزواج، والمال؛ فإن المال لم ينزل إلا لتحقيق عبادة الله: فيقوي العبد بدنه وجسمه بالطعام والشراب، وهذا من شأنه أن يمكنه من إقامة الصلاة، وربما استخدمه في الزواج – والزواج نصف الدين ([8])، وهو أغض للبصر، وأحفظ للفرج، فإذا قام العبد المتزوج يصلي لله تعالى؛ اشتد خشوعه، وأقبل بقلبه على الله تعالى؛ فإن عدم غض البصر، وعدم حفظ الفرج: مقتلة للخشوع أي مقتلة، وربما استخدم المسلم هذا المال في التداوي، فيقوي بدنه، ويكون أداؤه للصلاة خيرًا من أداء المريض.
وقد وجهنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو للمريض بالشفاء ليمشي إلى الصلاة؛ كما في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إذا جاء الرجل يعود مريضًا؛ فليقل: اللهم اشف عبدك؛ ينكأ لك عدوًّا، أو يمشي لك إلى صلاة»([9]).
فإنزال المال إما أن يكون لإقامة الصلاة أو يكون في خدمتها، أو لإيتاء الزكاة والتفريج عن المكروبين.
ولكن جهل ابن آدم هذا الأمر أو تجاهله، حتى إنه لو كان له واد من المال؛ لأحب أن يكون إليه ثان، فإذا نال أمنيته وتحقق مراده وتحصل على الثاني؛ أحب أن يكون إليهما ثالث.
نسي ابن آدم أن المراد من إنزال المال هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فتوسع في المشاريع التجارية، وبالغ، وغاص في بحار المادية؛ كل ذلك لأجل الوادي الأول، فأنى له الواديان والثلاثة؟!
كم يفوت أولئك من الخشوع في الصلاة بسبب هذا السعي الزائد لأجل التنفل في الدنيا، وإضاعة الخير العظيم!
ولم يقف الأمر عند إضاعة الخشوع فحسب، بل تجاوزه إلى إضاعة الصلوات؛ فأنت ترى من تفوته الصلوات لانشغاله بجمع المال؛ ناسيًا أن المال لم يكن إلا للصلاة والزكاة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لي مثل أحد ذهبًا؛ ما يسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء؛ إلا شيئًا أرصده لدَيْن»([10]).
ومن البلاء المستطير أن تسمع فتاوى سربها بعض المشتغلين بالمال: أن المرء يحل له جمع الصلوات كلها في وقت واحد!! فيؤخرون الصلوات، ويصلونها بعد العشاء، ويعطلون بذلك المواقيت والفرائض، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
([1])يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم. «تفسير ابن كثير».
وفي «الفتح»: «... الذين حصرهم الجهاد؛ أي: منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض».
([2])يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض هو السفر؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾. «تفسير ابن كثير».
([3])أي: لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه؛ فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة؛ فقد ألحف في المسألة. «تفسير ابن كثير».
وفي هذا حديث صحيح، رواه: البخاري (1476)، ومسلم (1039)، وغيرهما؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r؛ قال: «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي، أو لا يسأل الناس إلحافًا».
([4])البقرة: 273.
([5])انظر كتابي «الصلاة وأثرها في زيادة الإيمان وتهذيب النفس» (طبع المكتبة الإسلامية – عمان).
([6])رواه: أحمد في «مسنده»، والطبراني في «الكبير»، وإسناده حسن؛ كما في «الصحيحة» (رقم 1639).
قال شيخنا: «وللحديث شواهد كثيرة معروفة، فهو حديث صحيح، فراجع «فتح الباري» (11/253-258 – طبع الخطيب)». اهـ.
وهو في الصحيحين دون: «إنا أنزلنا... الزكاة»، انظر «صحيح البخاري» (كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال)، و «صحيح مسلم» (كتاب الزكاة، باب لو كان لابن آدم واديان...).
([7])الذاريات: 56.
([8])وذلك لقوله r: «إذا تزوج العبد؛ فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي»، رواه البيهقي في «شعب الإيمان»، وهو حسن بطرقه وشواهده؛ كما في «الصحيحة» (رقم 625).
([9])أخرجه أبو داود وغيره، وانظر: «الصحيحة» (رقم 1304).
([10])رواه: البخاري عن أبي هريرة (كتاب الرقاق، رقم 6445).
|